مهند صلاح
إعتاد الجمهور على النفاذ نحو الوسط الثقافي من خلال عدد من المؤسسات و الإتحادات و النقابات التي تبنت منذ تأسيسها الأول , أن تكون ممثلة للمشروع الثقافي و جميع الأسماء المنضوية تحت أجنداته , التي من المقرر لها أن تكون نقطة الإرتكاز التي تنطلق منها الكثير من التجارب لتكون على طاولة التلقي و القراءة على حد سواء . لكن بسبب إبتعاد هذه التراكيب المؤسساتية عن نقاط الشروع التي إنسلخت منها لتواكب الشارع الثقافي . كان لزاما أن تكون هنالك أفكار تتصدى لعمليات التواصل و عدم إتساع الفجوة العقدية مع الجمهور , و التي نشأت كنتيجة طبيعية للممارسات الخاطئة لهذه المؤسسات و إنعزالها و عدم قدرتها على إحتواء متطلبات التلقي . و من أهم هذه البدائل هو النشوء المحاذي لعدد من المجاميع و المنتديات المعنية بالثقافة طرحت نفسها كـ ( بديل ثقافي ) في الشكل أو المضمون . لكنها هي الأخرى لم تستطع أن تمتلك القدرة على التأثير في الشارع الثقافي بشكل عام , بل إكتفت بإحتواء كل من يجد بأنه على خلاف مع المؤسسات الثقافية الأم , أو إن الأخيرة لم تك بالمستوى الذي يلبي طموحه كمنتج للفعل الثقافي .. و هنا تجب الإشارة إلى أن الأنساق الثقافية العامة في أي تجمع انساني هي المحرك الفعلي لكافة انواع النشاط الفكري داخل المجتمع ، وهي النظام الدقيق الذي يتخلل جميع خلايا وانسجة هذا المجتمع ، فيدفع به حينا ويمنعه احيانا ، ويبيح له شيء ويحظر عليه اشياء أخرى، ويضع له التراتبية القيمية , وربما المعرفية , في كل ما يدخل في نطاق وعيه . وبهذا تكون هذه الانساق بمجملها ، أشبه بالشبكة الخفية التي لا تظهر بقدر ما تظهر آثارها ونتائجها بجلاء ، على هيئة مفردات سلوكية ، قابلة لأن تقرأ في نسقها ، فتمتلك بذلك القدرة على التأثير مهما كانت متوافقة أو متضادة في طروحاتها . و بدأ العالم في إستقطاب مفاهيم الإنطلاق نحو نجاح التجارب المنفردة التي لا ترتبط من حيث المفهوم الفكري بمؤسسة أو مجموعة ما . خصوصا مع الثورة الأليكترونية الهائلة التي أتاحت الفرصة أمام هذه التجارب في الوصول لمناطق بعيدة جدا عن مساحات الإشتغال الجماعية , و أكسبتها القدرة على صناعة جمهور عريض يقتفي بشغف الأعمال الإبداعية التي ينتجها أصحاب ( التجارب الإبداعية المنفردة ) . و مع كل هذا التوسع في مفهوم الثقافة ، من حيث قراءة البدائل الثقافية ، بحيث يشمل ما لا يمكن حصره في المناهج التعليمية , فإنني اراهن على قدرة الثقافي النخبوي ( اقصد بالنخبوي هنا ما يتجاوز الثقافة الشعبية ، وما تقاطع معها من ثقافة الوعظ ) على اختراق الوعي العام ، و التأسيس لأنساق مغايرة ايجابية تتحدى انساق السلب في الثقافة الراهنة ، اذا ما تمكن من إعتلاء المنصة التعليمة ، و فك بذكاء الشيفرات الإعلامية التي تحيل بين نتاجه و الجمهور بما لهما من قدرة وفاعلية كبرى في تشكيل الوعي , بحيث تسري روحه في خلايا المادة العلمية والإعلامية ، ليس الانساني منها فحسب ، وانما التجريبي منها ايضا , و ما لم يقف التعليم والإعلام بحزم ووضوح لمظاهر هذا الترويج الذي يجري احياناً على نحو مباشر ، واحياناً يتلبس اللغة على نحو خفي ، فإن ( فجوة الإبتعاد ) عن الجمهور ستكتمل ، ولن تصبح هذه ( الفجوة ) تشوهات تعتري الجسد الحضاري للمجتمع فحسب ، بل سيصبح المجتمع – بأكمله – يفكر بلغة بلهاء. على الكوادر العاملة في تطوير مجال التعليم ، أن تجاهد لرصد مظاهر الخلل في المناهج التي تبرمج الوعي المستقبلي لدى الطلبة ، فإنها – مع تقديرنا لما تبذله – تبقى غير قادرة على احداث انقلاب معرفي في بنية الثقافة المحلية ، نتيجة مداهنتها الاتجاهات المحافظة من ناحية ، ونتيجة تصورها لطبيعة الخلل المنهجي الذي يجب التصدي له من ناحية اخرى، بوصفه خللاً لا يجاوز المفردة النصية الى البناء العام الذي يحدد نمط التلقي . لابد ان نعي ان القضية لو كانت مجرد حذف جزئي لقسم من النتاج المؤدلج داخل الكتب المنهجية , لكانت المسألة أقل تعقيدا . ولكننا نعي جيدا بأنها اكبر بكثير من مجرد التسابق الى الحذف الجزئي لهذا الموضوع او ذاك، فالحذف مهما قل يبقى فراغا ما ، بحيث يكون قابلا لأن يحل ، بصرف النظر عن طبيعة الحال ( من الحلول ) ، او مفهوماً يستنبط من الغياب اكثر مما يستنبط من الحضور، فهو موضع لفكرة ما ، تم السكوت عنها ، بدل ان يطرح البديل المعرفي لها . اذن فالقضية الحقيقية قضية اضافة ، لا قضية حذف ، قضية طبيعة ثقافية ذات نظام واضح المعالم ، لا مفردات متلصصة يتم القبض عليها هنا او هناك . و لا يخفى انه قد تم في مناهجنا الاحتفاء بثقافة التجميع وشخصياتها ، والاسترسال في السرد المعرفي والتاريخي بالاعتماد على ثقافة التجميع وأعلامها ، على حساب ثقافة العقل وشخصياته ، وعلى حساب ثقافة النقد التاريخي. و متى جرى استبدال شخصية بشخصية فإنما يجري استبدال تجميعي بتجميعي ، وتلفيقي بتلفيقي ، وتقليدي بتقليدي . نحن بحاجة جادة لفهم واضح المعالم حول إمكانية التنازل عن كل هذا الزيف و الضجيج الذي نتزعم منابره , لنستطيع بالتالي أن نفهم خطواتنا التي يجب أن نتخذه لتصحيح المسارات , و نتخذ من التجارب الفردية و الجماعية على حد سواء إنموذجا ننطلق من خلاله نحو جمهور واسع بدأ يلجأ إلى فكرة مغادرة ما هو ثقافي نحو مناطق الجهل و الخرافة , و إتخاذ بعض الرموز المتطرفة فكريا كمرجعيات يعتبرها هي البدائل الناجحة حسب تصوره الخاطئ . بينما لا زال مدعوا الثقافة يكتفون بالقراءة لبعضهم و ممارسة طقوس لا محدودة من النرجسية البائسة على حساب نتاجهم الفكري و الثقافي . متناسين بأن هنالك تاريخ سيكون بالمرصاد لكل أفعالهم مهما كانوا قادرين على إخفاء محتواها المزيف …